تحقيق الاستقامة في نفسه وإلزامها بما يلزم بها غيره : فقد كان قبل الإسلام يعرف بالصادق الأمين شهادة يشهد بها أعداؤه وأصحابه على حد سواء كما كان معروفا بالوفاء و السعي في مصالح غيره فعندما نزل عليه الوحي و شكا حاله لخديجة قالت : و الله لن يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، و تكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، و تعين على نوائب الحق[10] ، و عندما سأل هرقل أبا سفيان هل يغدر؟ قال أبو سفيان : لا[11] و لا شك أن هذه الأوصاف تسبق التعاليم إلى فتح القلوب فتحبه أو تحترمه و تكون مستعدة لأن تلتزم أمره وتجتنب نهيه فإذا أضيف إليها مشاركته الناس في الالتزام أمرا ونهيا في سرائهم و ضرائهم فهي إشارة أخرى لقيمة العمل في التغيير ، لقد حاصر المشركون المسلمين في شعاب مكة و منعوا عنهم الطعام و اللباس و الزواج وعرض بعض المشركين على النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ بعض المزايا و لكنه أبى ذلك أشد الإباء، فأين هذا اليوم من حكام وملوك تطحن الأزمات شعوبهم و هم يعيشون في عالم آخر من البذح و الرفاهية وأين هذا من حكام وضعوا قوانين على الناس و استثنوا أنفسهم بالحصانة.
لقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مثالا صادقا للرجل العملي يأمر أصحابه أن يصدقوا القول بالعمل حتى قال : "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها يخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان جبة خردل"[12] ، وعندما أمر أصحابه بالصبر فإنه كان مثلهم الأعلى ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأكرمهم على الله لم يتنزل عليه نصر الله بسُنّة خارقة، بل كُذِّب وأُوذي واتُّهم بالسحر والجنون وشُجّ رأسه وكُسرت رباعيته وتألب عليه الأحزاب. ولكنه ظل صابراً محتسبا .ً
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على هذه الحقيقة، فها هو ذا خباب بن الأرث رضي الله عنه يقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا"، ومع أنه طلب أمراً مشروعاً وهو الاستنصار والدعاء، إلا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قعد وهو مُحمرٌ وجهه، وقال: " قد كان من كان قبلكم لتُمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه ...ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه ..وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، ما يخاف إلا الله عزو جل والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون[13] .
2ـ الحرص على تطبيق قوانين المصلحة العامة والالتزام با لحق مهما كانت النتائج : فلم يكن يقبل العفو في الحدود كالسرقة و القذف و غيرها حتى قال : تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب[14] ، و أما في الأمور الخاصة فكان يفضل العفو و أفضل مثال عن ذلك عفوه عن مشركي مكة يوم الفتح حين قال لهم : إذهبوا فأنتم الطلقاء ، و عفوه عن اليهودية التي وضعت له السم في الطعام ، و عفوه عن المنافقين الذين آذوه، ويغضب النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ من أية محاولة لانتهاك هذه القاعدة ففي حديث المرأة المخزومية التي سرقت و كبر على أهلها قطع يدها توسط لهم عند رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أسامة بن زيد حب النبي ، فغضب النبي حتى احمر وجهه و قال : يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله ؟ ثم قام فاختطب فقال :إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد و أيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها[15].
كما كان – صلى الله عليه وسلم – حريصا كل الحرص على الالتزام بالحق مهما كان ذلك مكلفا، سواء كان ذلك متعلقا بالأفعال كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو بالأقوال كالشهادات ونحوها ، وهو بذلك يربي أصحابه على الصدق والخقيقة ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".[16] و عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم".[17]
3ـ تنويع الخطاب حسب حال المخاطبين: حيث كانت كلماته و أحاديثه بمثابة الدواء و لذلك كان يصف لكل واحد منهم ما يناسبه فقد يكون ما يصلح للواحد منهم لا يصلح للآخر فعندما سأله رجل أي الأعمال أفضل قال : الصلاة على وقتها[18] وقال لآخر: إيمان بالله ورسوله[19] ، و لكن عندما سأله آخر أي الناس أفضل؟ قال :مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله[20]. و عندما حاول فضالة قتله مرتين وضع يده على قلبه فتحول إلى حبه، وعفا عن معاوية وعكرمة و أبى العفو عنه هبار بن الأسود و يدل هذا التنويع على فهمه للنفسيات و ما يصلح لكل منها ، كما يدل ذلك على أنه صاحب فراسة صادقة .
4 – أعطى مفهوما جديدا للسلطة والحكم : فهو قد علم أصحابه أن المسؤولية أمانة ثقيلة لا تسند إلى من سألها ، لأن ذلك يعني أحد أمرين ، فإما أن سائلها لا يعرف حقيقتها و متطلباتها و إما أنه يعرف ذلك و هو يريد استغلالها ، و في كلتا الحالتين لا يصلح لتوليها فعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت يارسول الله ألا تستعملني ؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال : يا أبا ذر ، إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها[21] ، و عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال : دخلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله أمرنا عن بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال : إنا والله لا نولي هذا العمل أخدا سأله أو أحدا حرص عليه[22].
ويترجم حقيقة الحكم كما جاء به الإسلام ما روي عن الربيع بن زيادة الحارثي أنه وفد على عمر بن الخطاب فأنس إليه عمر و أعجبته هيئته فشكا إليه عمر طعاما غليظا أكله فقال الربيع : ياأمير المؤمنين إن أحق اناس بطعام لين و ملبس لين لأنت ، فرفع عمر جريدة معه فضرب بها رأسه، و قال :أما و الله ما أراك أردت الله بمقالتك، ما أردت إلا مقاربتي ! ويحك هل تدري ما مثلي و مثل هؤلاء ـ جماهير الناس ـ ؟
قال الربيع : ما مثلك و مثلهم ؟ قال عمر : مثل قوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم و قالوا له : أنفق علينا ! فهل يحل له أن يستأثر منها بشيء ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين قال : فكذلك مثلي و مثلهم ...
ثم قال عمر : إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم و ليشتموا أعراضكم و يأخذوا أموالكم ! و لكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم و سنة نبيكم .
فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علي ليرفعها إلي حتى أقصه منه ! فقال عمرو بن العاص : أرأيت إن أدب أمير رجلا من رعيته أتقصه منه ؟ فقال عمر : و مالي لا أقصه منه و قد رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقص من نفسه ؟ ، و كتب عمر إلى أمراء الأجناد : لا تضربوا المسلمين فتذلوهم! ولا تحرموهم فتكفروهم ! ولا تجمروهم[23] فتفتنوهم ! ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم ![24] .
وهذا المفهوم الذي أعطاه النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ للسلطة و الحكم لا يوجد له نظير في العالم قديمه و حديثه و إنما ساءت أحوال المسلمين بعد ذلك حين أصبحت المسؤولية غنيمة يتوارتها الناس ...
5 – إسناد المهمات إلى أصحاب الكفاءة: بمعنى أنه يستفيد من جميع الإمكانيات والطاقات المتاحة، فلقد ولى خالد بن الوليد قيادة في الجيش على حداثة عهده بالإسلام، وكلف معاوية بن أبي سفيان بكتابة الوحي، وأبوه كان من أشد المناوئين له، واليوم لا تسند المهمات السياسية والعسكرية إلا لأصحاب أقدميات معلومة، واتجاهات محددة، فلا يكون توزيع الوظائف على أساس الكفاءة والأهلية بمقدار ما يكون ذلك على أساس الولاء والانتماء، والكثير ممن يتحكمون اليوم في رقاب المسلمين وأموالهم ويلحقون بهم الهزيمة تلو الأخرى في شتى الميادين إنما جاؤا إلى مهامهم ومسؤولياتهم بطرق ملتوية، وعلى أساس حزبي أو جهوي أو مصلحي لا علاقة له بالكفاءة ، وفي الوقت ذاته أوصدت الأبواب الحديدية أمام أهل الكفاءة .
7 – فتح القلوب قبل فتح البلدان : فلقد عرضت عليه السيادة و الملك و من شأن ذلك أن يختصر له الطريق لتبليغ الدعوة و لكنه أدرك بحصيف رأيه أن الوصول إلى حكم الناس بطريق مريب و إن فتح الكثير من السبل لنشر الدعوة إلا أنه لا يكون مؤهلا لفتح القلوب و لذلك فإنه جاء إلى التغيير من أبوابه فصابر معهم ، وأعطى للبشرية دروسا مثالية في كيفية التعامل مع الآخرين والتأثير عليهم أيضا، وما أرى علم التنمية البشرية الحديث إلا مأخوذا من سنته – صلى الله عبيه وسلم _ وهو القائل : إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم، وهو القائل لمعاذ عندما أرسله إلى اليمن : إياك وكرائم أموالهم ، وهو القائل : لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق.
تحياتي
اليمامه