لائـحـة اتـهـام
قررت أن أزور المقبرة من أجل زيارة جدي، لعلي أحاور الموتى أو تحاورني ، باحثا عن قواسم مشتركة ، فقدها العالم أجمع ، العربي والإسلامي والشرقي والغربي ، والدولي واللادولي ،والديني واللاتيني ، والشكنازي و الحمراوي ، حتى عالم القرود والحيوانات .
أخذت أنظر إلى القبور بتمعن وتفحص .... صمت يطبق على المكان تؤرقه شقشقة الطيور ، بدأت أقرأ كثيرا من الكتابات فوق القبور، فوجدتها واحدة أو متشابهة إلى حد كبير ، وموجزة في إيجاز يحقق الوحدة العربية والإسلامية بين الأموات ، القواسم المشتركة التي حققت الوحدة الوطنية بين الموتى هي كل لوائح الاتهام المكتوبة من فوق ظهور القبور : ( توفي يوم كذا... سنة كذا... عن عمر يناهز كذا... قضاها في أعمال البر والتقوى ) .
استغرقت في التفكير وقلت في نفسي : عشرات الألوف من الموتى هنا ، قضوا حياتهم في أعمال البر والتقوى !!! . فأين كانت منهم فلسطين وأفغانستان والعراق وكشمير، والبوسنا ولبنان والسودان والصومال ؟ .
وأين كانت منهم جيوش الجياع والمظلومين من الأمة ؟ .
وأين كان منهم جموع المعذبين والمضطهدين في الأرض ؟ .
وتخيلت كم عدد الموتى في المقابر الأخرى ، وكم عددهم في العالمين العربي والإسلامي ؟ .
قلت : لو أن كل واحد منهم تفل على إسرائيل من فمه أو من أنفه تفلة واحدة لأغرقوا مفاعل ديمونة النووي ، الذي صنع من القنابل النووية ما يغطي جميع مدن وقرى العالم العربي ، ولأغرقوا إسرائيل في بحر من التفال أو التفل ، ألم يقضوا حياتهم في أعمال البر والتقوى ؟ .
وهكذا يصبح الأحياء عندما يتحولون إلى أموات ، سيوجه لكل واحد منهم لائحة اتهام مكتوبة على قبورهم ( قضاها في أعمال البر والتقوى ) .
نظرت غربا وعلى بعد عشرات الأمتار ، جذبني منظر قبر آخر حظي باهتمامي ، لأنني ومن دواعي السخرية أنني أصبحت أهتم بالقبور والموتى ، رأيت من حوله الورود والرياحين والأزهار والإنجيل الأخضر ما لم يوجد في حي بأكمله من أحياء اللجوء للشعب الفلسطيني أو العراقي أو الصومالي ، بل حتى في أحياء كبيرة وكثيرة من أحياء قطاع غزة مثل حي الدرج والشجاعية والزيتون وغيرها الكثير .
ليس فقط ذلك ، بل مطليا بالطلاء الفاخر الجميل ، إلى درجة أنني تمنيت أن يكون لي بيت مثله ، حتى لو في بلاد الماو ماو ، أو بلاد الإغريق ، نظرت أيضا لأقرأ لائحة الاتهام من فوقه ( قضاها في أعمال البر والتقوى ) فإذا هي لأحد القادة الفلسطينيين ، الذين أشبعوا الفلسطينيين تعذيبا وقتلا ولصوصية ما بعدها لصوصية ، إلى درجة أنْ فرح الناس عندنا في فلسطين بمقتله ، وتنفسوا الصعداء ، من كثرة ما قدّم لوائح اتهام ضد شرفاء حركات المقومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية باسم الوطنية والعونطجية .
اقتربت من قبر آخر ، فإذا هو مرصع بالرخام الثمين ، يبلغ ثمن المتر المربع مته مائة دولارا .
قلت في نفسي الأمارة بالسوء ، كم مائة دولار ثمن الرخام على هذا القبر المحظوظ ساكنه ، هنيئا له .
قرأت لائحة الاتهام : ( قضاها في أعمال البر والتقوى ) فيبدو أنني صرت لا أجيد غير قراءة لوائح اتهام زماني .
ثم قبر آخر ، رغب ابن الميت أن يختار لأبيه الميت مكان قبر والده على مفترق شارعين ( هكذا والله ) .
وعلى صفحة قبره لائحة اتهام أخرى ( قضاها في أعمال البر والتقوى ) .
قلت في نفسي بعد أن أخرجت من صدري زفيرا يحكي كل لغات المستضعفين في الأرض : لا يهم فالعدالة تحت الأرض وليست فوق الأرض .
تذكرت سيدنا عمر ابن الخطاب الذي طلب منه أحد الشهود أن يشهد على شراء بيت يسكنه ، فقال للكاتب أكتب : اشترى ميت من ميت قبرا .
وتذكرت أيضا أنني قبل خمسين عاما صحبت جدتي ووالدتي وعماتي عليهم رحمة الله إلى المقبرة من أجل إحياء ليلة الخميس ، وكانت ليلة يحييها الناس في أول يوم خميس للميت ، الذي كان جدي رحمه الله ، هكذا كانت عاداتهم من قبل والحمد لله فقد تلاشت الآن بفعل الصحوة الإسلامية ، واصطحبوا معهم حينئذ ، العنب والبلح والتين المجفف ، والطعام والشراب ، وأمضينا معا ليلة كاملة بجوار قبر جدي المرحوم ، ولكن بدون لائحة اتهام .وتذكرت ما قاله لي جدي المدفون هنا وأنا طفل صغير: أن أيام وعد بلفور خرجت الجماهير في مظاهرات واحتجاجات على وعد بلفور ، تهتف وتقول : فليسقط واحد من فوق ، بدلا من أن تقول فليسقط وعد بلفور !!! .
قلت في نفسي كعادتي أكلمها في ليالي غربتي في وطني ووحشتي بين قومي :
ما أكثر لوائح الاتهام في هذا الزمان !!.
لوائح من أحياء لأحياء ، ولوائح من أحياء لأموات ، ولوائح في السجون المكتظة بشرفاء الأمة ، ولوائح في ميادين وساحات العمل هنا وهناك ، ولوائح في مراكز الشرطة ، ولوائح على الطرقات والمفترقات .
إلا أنا فقد احترت بلوحتي ، لذلك كتبت لأبنائي وصيتي .
ولا زلت أتساءل : هل أنا أكتب على الهواء ؟ وهل أنسج أفكاري فوق الماء ؟
وهل يجدي قلمي فائدة ونفعا للناس بالطبع وليس لي ، فأنا اقتربت من الستين عاما، ولا انتظر من الدنيا إلا موتا كريما ، وليس موتا فاضحا كما يموت الناس اليوم .
وهل أحد من الناس يصله صدى صرختي ، وعمق عبارتي ؟ .
وتذكرت صرخة حاخامات اليهود في أوروبا سنة 1787، عندما دعوا لإقامة وطن لليهود في فلسطين ، وكانت حينئذ صرخة في صحراء ، وكيف تم تنفيذها في هذه الأيام ، فلم أزل أسمعها وأجدها ، تصفع مني الوجه وتجدع مني الأنف ، وقلت : لماذا لا نصرخ جميعنا نحن أصحاب الأقلام المستضعفين والمقهورين والمضطهدين ؟ أليس القلم أحد وأمضى من السيف والبندقية ؟ .
لعلنا بصرختنا هذه نبني لنا وطنا جديدا ، على كوكب زحل أو المريخ أو المشتري ، أو حتى فوق الشمس ، أو على سفينة في البحر فلا يهمنا ، فالمهم وطن ... .
أليس ذلك أفضل بكثير من أن يُجمع العالم بأسره ، بما فيهم الحكومات العربية والإسلامية ، على أن يكون وطن الفلسطينيين تحت الأرض ؟ .
ألم يتآمروا من قبل على توطيننا في صحراء سيناء في حقبة الخمسينات ؟
وتأمروا على توطيننا في ما يسمى بالوطن البديل في الأردن ، وتآمروا على توطيننا في دول الشتات خاصة أوروبا الغربية والذي يشهد على ذلك هو موجات الهجرة لشبابنا من أرض فلسطين وبامتيازات مغرية ، وتآمروا على توطيننا في العراق ( خطة شارون بوش السرية ) .
ألم يقولوا لنا منظرين علينا : أن وطنك حيث وجدت المحبة والأمن ؟
كان لي صديق عملنا معا في مكان واحد مدة من الزمن ، كان يحب حركة فتح إلى درجة كبيرة جدا ، وصلت إلى درجة التعصب لها ولأفكارها وسياستها ، وكان يكره حركة حماس كرها شديدا ، هاجر إلى غرب أوروبا ، شأنه شأن الكثيرين من الذين هاجروا إلى هناك ، بعد أن وصل بشهرين رفع سماعة الهاتف ليتكلم معنا ، فبدلا من أن يقول أول كلماته كيف حالكم وما هي أخباركم ، قال :
( ..... أخت فلسطين ) هكذا أقسم بالله وبالحرف الواحد ، وغدا عندما يموت يكتبون له لائحة اتهام ( قضاها في أعمال البر والتقوى شارحا عدالة قضيته إلى العالم ) .
صمتُّ برهة من الوقت .... كصمت القبور ، فلا بد هنا أن نحترم مشاعر الموتى ونلتقي معهم في قواسم مشتركة .
ثم قلت في نفسي : أليس من الجهاد أن تخرج المرأة للقتال بدون إذن زوجها إذا احتل العدو جزءا من أرض الوطن ؟
ألسنا أكثر من مائتي مليون عربي ، ومليار ونصف مسلم ؟
فلماذا نلوم الفئة الضالة .... التائهة ....المنحرفة .... التكفيرية .... الجهادية .... الإسلامية .... الحرة ....الشريفة ....؟؟؟
هل كل يغني على ليلاه ؟ .
لقد صدق الشاعر :
وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكَ
إذا اشتبكت دموع في جفون ٍ تبين من بكى ممن تباكى
ثم قلت : يكفينا عشرة ملايين عربي أو مسلم بدلا من المليار ونصف مسلم .
ولا يهمني من قريب ولا من بعيد ، أن أكون في نظر المغنين والراقصين والمصفقين والعراة ، أن أكون منحرفا تكفيريا تائها ، لأن المعادلة المفروضة هي : أن أكون أو لا أكون ، فإما أن ننبطح تحت الجسم الأمريكي نغنج لحبات اللوز ، منسجمين بالخازوق المدقوق ولن يُقرع ، من شرم الشيخ إلى سعسع ، أو أن عيني سوف تُثلم المخرز الأمريكي اليهودي حتى وإن قُلعت ، فكيف لو كان كسره قريبا بإذن الله تعالى .
علمني جدي المرحوم أنه : لن يضيع حق ووراءه مطالب .
وعلمني أن لا أقول : فليسقط واحد من فوق بل أقول : فليسقط وعد بلفور .
تعم لأننا مائتي مليون عربي ، ومليار ونصف مسلم .
وأخيرا أودعكم أيها المقهورين بما قد قيل :
تموت الأسد في الغابات جوعا ولحم الضأن يرمى للكلاب
فهل ستنتظرون حتى الموت جوعا يا تُرى!؟
والسلام عليك يا جدي